جهات المجتمع المدني التونسيّة المستعدّة والقادرة تسعى إلى اكتساب المهارات الأساسيّة للمطالبة بالمساءلة
أدّت الثورة التونسيّة عام 2011 إلى مستويات غير مسبوقة من الحريّة لمجموعات المجتمع المدني الّتي أفلتت فجأة من عرقلة النظام وانتقائيّته وقمعه. فتونس كانت في عهد الديكتاتور زين العابدين بن علي دولة بوليسيّة، تعاني من مستويات عالية من الفساد المستشري، والسيطرة المركزيّة، "ورأسمالية المحاسيب" الّتي أدامت الإقصاء الاجتماعي الواسع النطاق، الّذي بات أحد أبرز التحديات التنمويّة في تونس اليوم.
وبحسب تقديرات منظّمة النزاهة الماليّة العالميّة، خسرت دولة تونس ما يربو على مليار دولار أميركي سنويًّا بسبب الفساد، والرشوة، والعمولات خلال حقبة بن علي؛ وتركّزت هذه الخسائر إلى حدٍّ كبير في قطاع الصناعات الاستخراجيّة. وبعد أن كانت هذه المسائل في طليعة مطالب احتجاجات 2011، ازدادت بروزًا وإلحاحًا مع تصاعد أصوات منظّمات المجتمع المدني، سيّما منها تلك المهتمّة بالعمل في قطاع الموارد الطبيعيّة في البلاد. وبالفعل، فإنّ صناعة الفوسفاط، وهي الدعامة الأساسيّة للاقتصاد التونسي، كانت برميل الوقود الذي أشعل الثورة الّتي أدّت إلى سقوط بن علي. (تتركّز صناعة الفوسفاط في تونس في منطقة قفصة الّتي تعاني من ارتفاع البطالة، والتخلّف، والإقصاء الاجتماعي، والتدهور البيئي.)
في حزيران/يونيو 2012، ونتيجةً للتعبئة الّتي قامت بها منظّمات المجتمع المدني، أعلن رئيس الوزراء حمادي الجبالي عن نيّة تونس بالانضمام إلى مبادرة الشفافية للصناعات الاستخراجيّة. ويلزم ذلك الحكومة بإشراك منظّمات المجتمع المدني في صنع القرارات المتّصلة بتقييم حوكمة الموارد وإصلاحها. وأدّى التزام تونس بمبادئ الحكومة المفتوحة عام 2012 إلى اعتماد عدد من الإجراءات الإيجابيّة الّتي تركّز على الشفافية، بما في ذلك نشر الميزانيّات على الإنترنت والانضمام في نهاية المطاف إلى شراكة الحكومة المفتوحة، في كانون الثاني/يناير 2014. وشهدت هذه الفترة من الزمن أيضًا انتقالاً سلميًّا للسلطة إلى حكومة تكنوقراط غير حزبيّة، كما اعتماد دستور جديد ورائد، بعد مسار مفتوح للتعليقات والمناقشة المواطنين ومنظّمات المجتمع المدني الّتي تعالج المسائل المختلفة. ولكن الحكومة لم تتّخذ أي خطوات إضافيّة للانضمام إلى مبادرة الشفافية للصناعات الاستخراجيّة (ما يمكن ردّه إلى كثرة التغييرات في الحكومة خلال السنوات الأخيرة). وأدّت موافقة البرلمان المُنتَخَب حديثًا على حكومة الوحدة الجديدة في مطلع 2015 بعدد من منظّمات المجتمع المدني إلى المطالبة من جديد بالانضمام إلى مبادرة الشفافية للصناعات الاستخراجيّة، والدفع باتّجاه إدراج شفافية القطاع الاستخراجي في خطّة عمل تونس لشراكة الحكومة المفتوحة الّتي صاغتها الحكومة مع ممثّلي منظّمات المجتمع المدني.
أمّا نحن في معهد حوكمة الموارد الطبيعيّة، فقد سعينا إلى المساعدة على الحفاظ على زخم المطالبة بالمزيد من الشفافية وعلى تحويل التزامات الحكومة إلى حقيقة. وأمّنّا التدريب على إدارة المشاريع وصياغة المقترحات لمنظّمات المجتمع المدني الّتي أطلقت في حينه مشاريع من تمويل المعهد، تختصّ بمسائل تتراوح بين إصلاح تشريع المحروقات حتّى تحسين سياسات التوظيف لدى شركة فسفاط قفصة، ومعالجة استياء المواطنين في المنطقة. وفي حين أنّ هذه المبادرات لا تزال جارية، فقد سبق للحوار العام حول هذه المسائل أن ارتفع. وفي الجولة التمويليّة الأخيرة، أولى المعهد أولويّةً للناشطين والجهود التي تركّز على المناطق المنتجة الأشدّ تأثرًا بغياب الشفافية والمساءلة في القطاع الاستخراجي في تونس.
ولكن، على الرغم من التغيرات الإيجابيّة والجهود المؤسّسيّة الّتي بُذلت لمعالجة انعدام العدالة الاجتماعيّة، لا يزال الفساد والإقصاء الاجتماعي قائمين. وعلى الرغم من تنامي النشاط والحماسة، فالمجتمع المدني الوليد في تونس لم يكوّن خبرة بعد، ولا يزال ضعيفًا ومشرذمًا. وإلى ذلك، ينتشر انعدام الثقة والتوتّرات؛ في ظلّ غياب لثقافة التشبيك، رغم أنّ الشراكات أساسيّة لتحقيق معظم أهداف مجموعات المجتمع المدني في هذا القطاع. في هذا السياق، أكّد المتدرّب والمشارك في ورشة العمل حول صياغة المقترحات فؤاد كريّم، رئيس الجمعيّة التونسيّة للبيئة والطبيعة، وهي منظّمة غير حكوميّة تنشط في محافظة قابس المنتجة للفوسفاط جنوبي شرقي البلاد، أنّ "المشروع لا يتوجّه فقط إلى منظّماتنا، بل يصبّ في مصلحة منطقة قابس ككلّ".
توصّل معهد حوكمة الموارد الطبيعية وشريكه أنشر ما تدفعه إلى اعتبار عمليّة بناء التحالفات أولويّة لتحقيق أثر ملموس على الإصلاحات المعنيّة بالشفافية في الصناعات الاستخراجيّة، إذ من شأنها أن تساعد على الحدّ من التوتّر بين جهات المجتمع المدني، وأن تمكّنهم من تحقيق الأثر. وتقول ديانا القيسي، منسّقة تحالف أنشر ما تدفعه في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا "على منظّمات المجتمع المدني التونسيّة أن تعمل معًا وأن توحّد جهودها". "ولا بدّ من خطّة استراتيجيّة قائمة على المناصرة لتشكّل الأساس الّذي سيطلق منه المجتمع المدني جهوده بشكل تعاوني".
على طواقم منظّمات المجتمع المدني التي تعمل على مسائل الموارد الطبيعيّة أن تحسّن فهمها للمسائل التي تواجهها كخطوة أولى – فإنّ زيادة النفاذ إلى البيانات وتعزيز المعارف تحسّن في النتيجة قدرة هذه المنظّمات على إخضاع من هم في السلطة للمساءلة. وأظهر أحد النشاطات الّتي نظّمها المعهد بالتعاون مع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وهو من أصحاب المصلحة الأساسيّين في الحوض المنجمي، أنّ المشاركين كانوا يتمتّعون في أحسن الحالات بفهم بدائي لقطاع الموارد الطبيعيّة. وأشارت السيّدة ليلى داب، العضو في منظّمة تنمية بلا حدود الناشطة في منطقة تطاوين، أنّه "على الرغم من أنّنا نعيش في منطقة تتأثر مباشرةً بالمسائل الاستخراجيّة، فمنظّمات المجتمع المدني لا تتمتّع بفهم للقطاع يتيح لها المشاركة في النقاش. ويهدف مشروع منظّمتها المموّل من المعهد إلى تدريب منظّمات مجتمع مدني أُخرى على مسائل الشفافية الاستخراجيّة. "أتاحت هذه الورشة لفريقنا التعلّم عن خصائص القطاع، سيّما منها ما يتعلّق بسياسات شركات النفط الدوليّة العاملة في المنطقة، الّتي تحتاج برأينا إلى إصلاح".
ومن خلال مقترحات المشاريع الّتي تمّ تطويرها بالتعاون الوثيق مع موظّفي المعهد، والّتي نُفذت بدعم من أعضاء الفريق، تستعدّ منظّمات المجتمع المدني الشريكة الآن للمناصرة، بالتعاون مع وضمن إطار تحالف حديث النشأة يتألّف من أعضاء يركّزون على الشفافية، بغية حثّ الحكومة على الإيفاء بوعدها بالانضمام إلى مبادرة الشفافية للصناعات الاستخراجيّة.
"إنّ مبادرة الشفافية للصناعات الاستخراجيّة هي المعيار الّذي سيتيح لنا توسيع صلاحيّة مراجعة الحسابات في عملنا مع الشركات التي تنشط في القطاع الاستخراجي"، كما شرحت لنا فطّوم عسيلاتي، المراقبة العموميّة وعضو الجمعيّة التونسيّة للمراقبين العموميّين. "يمكن اعتماد مبادرة الشفافية كشريعةٍ لنا، لأنّها ستساعدنا على ضمان اتّساق إدارة إيرادات الموارد الطبيعيّة مع المعايير الدوليّة".
باتريسيا كرم هي المنسّقة الإقليميّة للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في معهد حوكمة الموارد الطبيعيّة. حنان كسكاس هي معاونة المعهد في تونس
Authors
Hanen Keskes
Middle East and North Africa Senior Officer
Patricia Karam
MENA Director